الفصل الأول
الخلية الحية – الجزء الأول
“The Living Cell “
الخلية هي وحدة البناء الأساسية في جميع الكائنات الحية، نباتية كانت أو حيوانية، وهناك كائنات تتكون من خلية واحدة مثل البكتيريا، وكائنات متعددة الخلايا، مثل بعض الطحالب، ثم الكائنات الأكثر تعقيداً، كمعظم الحيوانات، حيث تنتظم لديها الخلايا في شكل أجهزة وأعضاء متخصصة، مثل خلايا الغدد المختلفة التي تتخصص في إفراز هرمونات، وخلايا كرات الدم الحمراء لنقل الاكسجين، وثاني أكسيد الكربون، وخلايا الجهاز المناعي للدفاع عن الجسم، وخلايا العضلات، والقلب والرئة، والخلايا العصبية، وخلايا الجهاز الهضمي ….الخ. بإختصار عندما نتحدث عن الخلية فإننا نتحدث عن الحياة، إذ لا توجد حياة مهما كانت بدائية بدون خلية.
ومهما كان نوع الكائن الحي سواء من النبات أو الحيوان فإن الوحدة الأساسية في تكوينه أي الخلية لا تختلف كثيراً في مكوناتها ولا في وظائفها الحيوية الأساسية، هذه الحقيقة كانت معروفة لداروين ولمعاصريه من العلماء، ولكن الذي لم يكن معروفاً لديهم وظل مجهولاً بعده لأكثر من قرن من الزمان، هو التركيب الدقيق للخلية والكيفية التي تؤدي بها الخلية وظائفها، والتي بدأنا نعرف عنها شيئاً يذكر فقط منذ حوالي النصف الثاني من القرن الماضي بعد ظهور الميكروسكوب الإلكتروني، والتعرف علي تركيب البروتينات وأشكالها المختلفة، وإكتشاف الدنا “DNA” أو “Deoxyribonucleic Acid” وهو المركب الذي، كما سنعرف لاحقاً، يحمل كل التعليمات والأوامر التي تحدد نوعية وخصائص كل مخلوق من أصغر خلية بكتيرية إلي أعقد كائن نباتي أو حيواني ويعرف باسم الجينوم “Genome”، وما زال ما نجهله عن الإعجاز في تركيب الخلية الحية والطريقة التي تعمل بها يفوق ما عرفناه حتي الآن.
الحقيقة أن ما عُرف عن الخلية قد يجعلنا نشبهها بجهاز الحاسوب إلا أنها فائقة التطور والتعقيد، فالمعروف أن العناصر الأساسية في أي جهاز حاسوب هي: أولاً المكونات الصلبة “Hardware” بدء من الاطار الخارجي و المعالجات “Processors” وأقراص التخزين ووسائل الربط بينهم، وفي الخلية المقابل لهذا العنصر هو غشاء الخلية وجميع مكوناتها التي تعرف مجتمعة بإسم العُضيات الخلوية “Cellular Organelles” والتي تمثل مجموعة معقدة من المعالجات متصلة وظيفياً بعضها ببعض، ثانياً لابد من برنامج التشغيل “Software” الذي لا قيمة للجهاز بدونه، والذي يقابله في الخلية الدنا أو الجينوم والذي سنتناول الحديث عنه بالتفصيل في الفصل التالي، وأخيراً مصدرًا للطاقة إما بطارية أو وصلة كهربائية، والخلية الحية قد زُودت بمولد للطاقة خاص بها منذ اللحظة الأولي لنشأة الحياة والذي لم يتغير علي مدي ما يقرب من أربعة بلايين سنة منذ أن بدأت الحياة علي الأرض.
وسنتناول هنا بشكل مبسط بالقدر الذي لا يخل بالحقيقة العلمية شرح تركيب الخلية ومكوناتها الأساسية ووظيفة كل مكون (شكل رقم 1).
أغشية الخلية الحيوية “Cell Membranes“:
الأغشية الحيوية تشمل غشاء الخلية الخارجي وجميع الأغشية التي تحيط بمكوناتها الدقيقة، مثل غشاء نواة الخلية، غشاء الميتوكوندريا وغيرهما من مكونات الخلية، وتشترك جميع تلك الأغشية الحيوية في التركيب، فكلها مكونة من جزيئات من الدهون “Lipids”، والبروتينات “Proteins” والسكريات “Carbohydrates” والكوليسترول”Cholesterol”، ويرتبط بأحد نهايات جزيئات الدهون عنصر الفوسفات ولذلك تعرف باسم الفوسفوليبيد “Phospholipids”، وذلك لأن جزئيات الفوسفوليبيد هي العنصر المميز في تركيب الأغشية الحيوية، فكما سنعرف لاحقاً أن الخواص الكيميائية والفيزيائية لهذه الجزيئات هي التي جعلت منها المادة الوحيدة التي تتمتع بالكفاءة اللازمة للحفاظ علي مكونات الخلية أو إن شئت قل عزل الخلية ومكوناتها علي الوسط المحيط سواء داخل أو خارج الخلية، أما البروتينات فهي المسؤولة عن معظم الوظائف الحيوية لغشاء الخلية، فبعضها يعمل كبوابات تتحكم في نوعية وكمية المواد التي تدخل أو تخرج من الخلية، وأخري تعمل كمستقبلات تستجيب للمؤثرات الخارجية ومن ثَم ترسل إشارتها إلي داخل الخلية، وبعض هذه البروتينات، بالذات الموجود منها علي السطح الخارجي لغشاء الخلية، مسؤول عن تمييز نوع الخلية وكأنه بطاقة للتعارف بين خلايا النسيج الواحد، وبعض البروتينات هي أنزيمات ضرورية لتوليد الطاقة اللازمة لحياة الخلية، وأخري مسؤولة عن التواصل بين خلايا الجسم الأخرى، وبعض البروتينات كتلك التي في الخلايا العصبية هي مستقبلات متخصصة كمستقبلات الحرارة والتذوق واللمس وغيرها، والحقيقة أن وظائف البروتينات عديدة ومتنوعة وفقاً لنوع الخلية، علي سبيل المثال تعدت أنواع البروتينات الموجودة في غشاء خلية الدم الحمراء خمسون نوعاً، ولا شك أن هناك ما لا نعرفه حتي الآن.[1]
وبجانب جزيئات الفوسفوليبيد والبروتينات تبين أن غشاء الخلية مغطي بغابة من سلاسل السكريات تعرف باسم الجليكان “glycan“، وهي عبارة عن مواد سكرية “جلوكوز” مرتبطة بجزيئات الدهون و بالبروتينات، وتعتبر أحد المكونات الحيوية في غشاء الخلية، وتبين أن لها وظائف هامة سواء في حالة الخلية السليمة أو المريضة، وسنعرف المزيد عن هذه المركبات الهامة لاحقاً.
وقد أتاح لنا التقدم العلمي معرفة حقائق عن التركيب الدقيق والوظائف العديدة لغشاء الخلية مما جعل العلماء يرون أنه “العقل المتحكم” في الخلية (mem-brain)، لأننا إذا نزعنا الغشاء ماتت الخلية مباشرة، وإذا نُزعت المستقبلات من عليه أصبحت الخلية كشخص أصيب “بموت الدماغ”، لأنها لا تستجيب لشيء، بينما لا تحدث مثل هذه المضاعفات إذا نزعنا أي جزء آخر من الخلية، حتي نواة الخلية إذا إنتُزعت فإن الخلية يمكن أن تعيش لفترة زمنية قد تصل إلي بضعة أيام،[2]ولذلك فالأغشية الحيوية للخلية هي بلا شك أساس وجود الخلية، أي وجود الحياة.
أما في النباتات فبالإضافة الي غشاء الخلية، يوجد جدار سميك نسبياً، مصنوع من مادة السليلوز ( نوع من السكريات المعقدة) يحيط بالخلية من الخارج لحمايتها، يمكن تشبيه هذا الجدار السميك بصندوق من الكرتون يحيط ببالون ذو غشاء رقيق الذي هو غشاء الخلية، هذا الجدار من السليلوز في النبات يحمي الخلية ويعتبر كأنه الهيكل العظمي للنبات، وبالتالي بسبب هذا الجدار يستطيع النبات أن ينمو لارتفاعات كبيرة وهو محتفظاً بشكله، وتتواصل خلايا النبات مع بعضها البعض من خلال ثقوب صغيرة في هذا الجدار.
السيتوبلازم “Cytoplasm“:
السيتوبلازم هو الوسط “السائل” داخل الخلية، وجميع المكونات الأخرى للخلية وأهمها نواة الخلية “Cell Nucleus”، الميتوكوندريا، والإندوبلازميك ريتيكيولم “Endoplasmic Reticulum”، وجهاز جولجي “Golgi body”وغيرها تبدوا وكأنها مغمورة فيه ويحيط بكل منها غشاءه الخاص، إلا أن إستخدام تعبير “مغمور” هنا ليس هو التعبير الدقيق، فقد تبين أن كل مكون من مكونات الخلية له مكانه المحدد، كما أن السيتوبلازم ليس مجرد سائل يملأ الخلية، ولكنه معمل كيميائي تتم فيه كثير من التفاعلات، ويحتوي علي عديد من المواد، من إنزيمات، وأحماض دهنية وأمينية ومواد سكرية كلها ضرورية لعمل الخلية، كما أن به أيضا المخرجات أو النفايات الناتجة من عمليات الأيض أو التمثيل الغذائي”Metabolism” معبئة في أكياس خاصة “Vacuoles” ريثما يتم التخلص منها.
والمكون الرئيسي للسيتوبلازم هو الماء، بنسبة حوالي 70 في المائة، وقد تختلف هذه النسبة حسب نوع الخلية، المهم هنا أنه قد ثبت أن ماء الخلايا “Intracytoplasmic Water” ليس مجرد وسط لإعطاء الخلية شكلها، مثل الهواء في البالون كما كنا نعتقد سابقاً، بل أن له خصائص مميزة، ووظائف هامة، فهو يتشكل في طبقات، ويتميز بمقاومته للتجمد أو الجفاف، وله دور هام في تشكل البروتينات وسلسلة الدنا، وهناك الكثير من الحقائق التي لم تعرف بعد عن ماء الخلايا، ويعبر عن ذلك الباحث الكيمائي مايكل دانتون “Michael Denton” حيث يقول “أننا ربما نعرف عن سطح المريخ أكثر مما نعرفه عن ماء الخلايا”. [3]
نواة الخلية “Cell Nucleus“:
النواة هي مقر الإدارة في الخلية لأن بها سلسلة الدنا وهي كما ذكرنا المادة التي تحتوي علي المواصفات “Blueprint” التي تحدد نوع كل كائن، وعلي التعليمات والأوامر الخاصة بأدارة العمل في الخلية، وبرنامج تجددها بل وبرنامج موتها، وتعرف هذه المعلومات مجتمعة باسم الجينوم “Genome“، وفي الفصل الثالث سنتناول الحديث عن الجينوم بصورة أكثر تفصيلًا، هنا يكفي أن نعرف أن لكل نوع من المخلوقات الجينوم الخاص به، وأن هذه المعلومات في سلسلة الدنا مكتوبة بطريقة الشفرة ولذلك تعرف باسم الشفرة الجينية “Genetic Code”، والحقيقة أنها لا تختلف كثيراً عن الشفرة التي تكتب بها برامج الكمبيوتر، إلا أنها كما وصفها مؤسس شركة ميكروسوفت بيل جيتس “Bill Gates” “أكثر تعقيداً بمراحل كبيرة”، المهم أيضاً أنه عند تجدد الخلايا وانقسامها من الضروري أن تنتقل جميع تلك المعلومات -وأيضًا جميع مكونات الخلية الأم- إلي الخلايا الجديدة بدقة شديدة.
ولو تصورنا سلسلة الدنا موسوعة ضخمة من المعلومات والأوامر، فإن هذه الموسوعة مكونة من أجزاء هي الكروموسومات، ويختلف عدد الكروموسومات من كائن لآخر، ولكن لو تخيلنا أننا-في خليه بشرية- قمنا بفرد جميع كروموسوماتها ووصلناها بعضها ببعض لبلغ طولها حوالي 2 متر، ولك أن تتخيل كيف أن هذا الطول معبئا في نواة الخلية التي يقدر حجمها بحوالي 6 ميكروميتر”Micrometer[4]” وتحتل حوالي 10٪ من حجم الخلية، التي هي أصلاً لا تري بالعين المجردة، ولو مددنا سلاسل الدنا الموجودة في جميع خلايا الجسم، والتي تقدر بعشرة ترليون خلية (هناك تباين كبير بين المصادر المختلفة في تقدير عدد خلايا الجسم)،[5] ووصلناها بعضها ببعض، فإن طولها يصل إلي 744 مليون ميل، وهو ما يساوي المسافة بين الأرض والقمر ذهاباً وإياباً خمسة عشر مرة، وإلي الشمس أربعة مرات[6]ولذلك كي” تعبأ” هذه السلسلة داخل نواة الخلية فهي تلتف بطريقة خاصة جدًا حول بروتين يعرف بإسم الهيستون “Histone”، ولمدة طويلة كان الإعتقاد أن وظيفة الهيستون هو فقط لتعبئة سلسلة الدنا، إلا أنه في السنوات الأخيرة، تبين أن له وظائف تنظيمية أخري هامه تتمثل في التحكم في نشاط الجينات الموجودة في سلسلة الدنا، أي أن له وظيفة فوق جينية “Epigenetic“، من الجدير بالذكر هنا أن العوامل فوق الجينية مثل الهيستون وغيرها أصبحت موضوع آخر هام جداً، حيث أنها توجه وتحدد تنشيط الدنا في خلايا الجسم المختلفة.
وعدد الكروموسومات دائمًا عدد زوجي، وذلك في الخلايا الجسدية “Somatic”، أي في كل خلية من خلايا جسم أي كائن، أما خلايا الأمشاج، أي خلايا التكاثر وهي البويضة والحيوان المنوي، فهي تحتوي علي نصف عدد الكروموسومات الموجودة في الخلايا الجسدية، أي نصف المادة الجينية، علي سبيل المثال في الإنسان عدد الكروموسومات في البويضة أو في الحيوان المنوي 23 كرموسوم، بينما في باقي خلايا الجسم عدد الكروموسومات 46 كروموسوم “23 زوج”، نصفه متوارث من الأب والنصف الآخر من الأم، الجدير بالذكر أنه يمكن رؤية الكروموسومات وفحص تركيبها فقط أثناء إنقسام الخلية، أما في حالتها المستقرة فتبدو كجسم غير محدد الملامح يعرف بأسم الكروماتين “Chromatin” و لا علاقة بين عدد الكروموسومات وتفاضل الكائنات بعضها علي بعض، فالكلب لديه 78 زوج من الكروموسومات، وحبة الفاصوليا بها 12 كروموسوم، وبعض أنواع الأسماك لديه 200 كروموسوم.
وكل كروموسوم، يحمل أجسامًا تعرف بإسم الجينات “Genes” (سنعرف المزيد عنها في الفصل الثالث)، وهي أجزاء من مادة الدنا تحمل شفرة خاصة لوظيفة أو صفة من صفات الكائن، مثلاً هناك جين للون العين، وجين للطول، وجين لإفراز هرمون خاص بغدة ما.. وهكذا، ولذلك أي خلل في الجينات، أو في عدد أو تركيب الكروموسومات، إذا صاحبه نقص أو زيادة في عدد أو تركيب الجينات، يؤدي إما إلي مرض شديد، أو وفاة الكائن، وقد أنتهي العلماء في بداية القرن الواحد والعشرين من “مشروع الجينوم البشري”، وهو المشروع الذي كان هدفه هو تحليل الجينوم البشري، أي قرأه موسوعة الجينوم البشري، والتعرف علي الجينات التي يتكون منها، وسنتطرق لاحقاً للحديث عن هذا المشروع ونتائجه في مقالة أخري.
وأخيرًا يجدر الإشارة إلي أن هناك نوعين من الخلايا نوع لا يحتوي علي نواة وآخر يحتوي علي نواة، النوع الأول الذي لا توجد فيها نواة يعرف باسم “بدائيات النوي” بروكاريوتك “Prokaryotic Cells” مثل بعض أنواع البكتيريا، وفيها تتواجد مادة الدنا أو الجينوم في السيتوبلازم، أما النوع الثاني الذي توجد فيه نواة يعرف باسم “حقيقيات النوي” ايوكاريوتك “Eukaryotic Cells” وهي الخلايا التي منها يتكون كل ما نراه حولنا من مخلوقات نباتية أو حيوانية، ويعتقد العلماء أن بداية الحياة كانت من الخلايا البروكاريوتك، إلا أن كيفية التحول من خلايا بكتيرية بدون نواة إلي خلية لها نواة ما زالت قضية علمية مطروحة للبحث.
والنواة لها غشاء، ومثل غشاء الخلية فإن غشاء النواه به بوابات من خلالها تنتقل المواد، من داخل إلي خارج النواة، ويملأ النواة سائل نووي “Nucleoplasm”، مغمور فيه نوية “Nucleolus”، التي كما يوحي الاسم تظهر كنواة أخري صغيرة داخل النواة الأم، ليس لها غشاء منفصل، وهي مكونة معظمها من دنا، وهي المسئولة عن تكون وحدات صناعة البروتين في الخلية المعروفة باسم الريبوزومات (Ribosome) وسنعرف المزيد عنها لاحقًا، ومن ثَم كانت وظيفة النوية حيوية وكثير من الأمراض يكون سببها عيوب في النوية.
السنتريول”Centrioles“:
السنتريول هي أجسام صغيرة، لا تُري بوضوح طالما أن الخلية في حالة عدم إنقسام، هذه الأجسام مهمتها الأساسية تبدأ عند عمليه إنقسام الخلية، حيث تقوم بصنع أنابيب شعريه دقيقة تأخذ شكل مغزل تنتظم في وسطه مجموعة الكروموسومات، بعدها يبدأ كل كروموسوم بعد أن يكون قد أتم مضاعفة مادة الجينية ، فيتضاعف عدد الكروموسومات (مثلا من 46 الي 92)، أن ينشطر طولياً ثم تنقسم الخلية إلي خليتين، تحمل نفس المواصفات الجينية ونفس عدد الكروموسومات ” 46 كروموسوم” مثل الخلية الأم.
كما أن السنتريول له وظيفة حيوية هامة، فهو الذي ينتج الشعيرات الدقيقة التي تكون الجهاز “العظمي” للخلية “The Cell Cytoskeleton”، الذي سنتعرف عليه لاحقاً.
الريبوزومات “Ribosomes“:
الريبوزومات هي مصانع إنتاج البروتينات والتي كما عرفنا هي القوة المحركة لكل ما في الكائنات الحلية، وكل بروتين عبارة عن سلسلة -مثل العقد- حباته هي مركبات أدق تعرف بالأحماض الأمينية “Amino Acids”، وتختلف سلسلة البروتينات في أنواعها وشكلها وطولها حسب وظيفتها، مثلما تختلف الأدوات التي نستخدمها في حياتنا اليومية حسب وظيفتها (الشوكة، غير السكينة غير المطرقة ..الخ)، كذلك فإن البروتينات تختلف أيضاً في شكلها حسب الوظيفة التي تقوم بها، فهناك البروتينات الخاصة بتركيب الأنسجة “Structural Proteins” مثل بروتينات أربطة المفاصل والعضلات، نجدها طويلة وحادة وملتفة بعضها علي بعض مثل ألياف الصوف، وهناك البروتينات الوظيفية “Functional Proteins” مثل بروتينات الخلايا البصرية في العين، التي تتأثر بفوتونات الضوء فتحولها إلي طاقة كهروكيميائية، وبروتينات الهرمونات المختلفة مثل هرمون الأنسولين وهرمون الغدة الدرقية وغيرهما الكثير، وهناك الإنزيمات “Enzymes” التي تشكل مجموعة فريدة من البروتينات، التي في الحقيقة تعتبر معضلة كبيرة أمام أي طرح يتبني فكرة النشأة العشوائية للخلية الحية، لأنه بدون الأنزيمات لن تكون هناك حياة، فهي المسئولة عن تحفيز التفاعلات الكيميائية -التي لا تتوقف لحظة واحدة- داخل كل خلية من خلايا الجسم- وبدون الأنزيمات لن يحدث أي تفاعل كيمائي، علي الأقل بالسرعة المطلوبة، والأنزيمات لها شكل مختلف تماماً، فعادة تكون مستديرة، ولديها موضع يعرف بإسم الموضع النشط “Active Site”، وهو موضع مُعد فقط لتحفيز تفاعل كيميائي محدد، مثلاً هناك إنزيم لتحفيز تفاعل مادة ولتكن “a” مع مادة “b”، لكنه لا يصلح لتفاعل مادة “b” مع مادة “c”، وهكذا لكل تفاعل كيمائي، هناك إذًا في كل خلية آلاف الإنزيمات.
أما كيف تتم عملية تصنيع البروتينات في هذا المصانع، فهي من أروع ما أكتشف الإنسان في علم الأحياء، ولا شك أنها أيضًا من أكبر المعضلات أمام أطروحات الصدفة والعشوائية، وسنتناول الحديث عن هذه العملية بالتفصيل في مقالة أخري، هنا يكفي أن نعرف أن عملية تصنيع البروتينات تشتمل علي ثلاث خطوات رئيسية، الأولي هي نسخ شفرة التعليمات الخاصة بالبروتين المطلوب تصنيعه من علي سلسلة الدنا إلي سلسلة أخري من مادة جينية تعرف باسم “الرنا المراسل” “mRNA” (Messenger Ribonucleic Acid) التي بدورها تنطلق حاملة تلك التعليمات المشفرة من داخل النواة إلي مراكز التصنيع وهي الريبوزومات في السيتوبلازم (لا أحد يعرف إذا كان هناك ريبوزوم أو أكثر مخصص لأنواع محددة من البروتينات)، الخطوة الثانية هي ترجمة الشفرة المحمولة علي سلسلة الرنا المراسل، فكما يمر شريط المسجل علي رأس ضوئية خاصة تقوم بترجمة ما عليه من شفرات إلي صوت مسموع، أيضاً يُطبق الريبوزوم علي سلسلة الرنا التي تمر بداخله بينما هو يقوم بقراءة المعلومات وفك الشفرة وتنفيذ الأوامر أولاً بأول وذلك بجلب الأحماض الأمينية المطلوبة واحداً تلو الآخر مستعيناَ بنوع أخر من المادة الجينية يعرف باسم الرنا البناء “tRNA” (Transfer Ribonucleic Acid) إلي أن تكتمل سلسلة البروتين المطوب تصنيعها، أما الخطوة الثالثة فهي الإعداد شبه النهائي لسلسلة البروتين والذي كما سنعرف يتم في شبكة الأندوبلازم “Endoplasmic Reticulum”.
لا أحد يعرف علي وجه الدقة عدد جزيئات البروتين في كل خلية، الذي غالباً سيختلف تبعاً لنوع الخلية، لكن في دراسة تبين أن خلية الخميرة وهي الكائنات الفطرية أحادية الخلية تحتوي علي 42 مليون جزيء من البروتينات، [7] هذا العدد الهائل يعني أن الخلية الواحدة عليها أن تنتج آلاف البروتينات في الثانية الواحدة، والحقيقة أن معظم وظائف الخلية تتمحور حول إنتاج البروتينات بأنواعها المختلفة ووظائفها العديدة.
شبكة الأندوبلازم “Endoplasmic Reticulum“:
هذه المركبات تشكل أكبر عضو من المكونات الدقيقة في الخلية، وتنتشر فيها علي شكل شبكة تملأ معظم الخلية، وهو أمر لا يدعو للتعجب إذا عرفنا أن الخلية عليها أن تنتج آلاف البروتينات في الثانية الواحدة وأن شبكة الأندوبلازم لها دور هام في تصنيع البروتينات، هذا بجانب وظائف أخري هامه، وهناك نوعين رئيسيين من شبكة الأندوبلازم، نوع يُعرف بشبكة الأندوبلازم الناعمة “SER or Smooth Endoplasmic Reticulum” ونوع يعرف باسم شبكة الأندوبلازم الخشنة “RER or Rough Endoplasmic Reticulum”، وكل نوع له وظائفه، فالنوع الناعم “SER” له دور في عملية أيض الدهون “lipid metabolism” وتصنيع الفوسفوليبيد، الذي منه تتكون وتتجدد الأغشية الحيوية في الخلية، والكوليسترول، ولذلك له دور هام في تصنيع الهرمونات الستيرويد “Steroids” لاستخدامها وقت الحاجة، وأيضاً يعمل كمخزن لعنصر الكالسيوم وهي وظيفة هامة خصوصاً في خلايا العضلات.
بينما الأنواع الخشنة ” RER” فهي تعمل مع الريبوزومات في إعداد البروتينات، فبعد أن يتم تركيب سلاسل البروتين في الريبوزومات تبعاً للأوامر الصادرة من الإدارة العليا في الجينوم، تنتقل تلك السلاسل إلي الريبوزومات الخشنة كي يتم طيها في شكل ثلاثي الأبعاد خاص بكل نوع من البروتينات عن طريق أنزيمات خاصة، بدون هذه الخطوة لا يمكن للبروتينات أن تقوم بوظائفها، ولذلك توجد آلية لمراقبة جودة الإنتاج والتأكد من أن كل سلسلة بروتين قد تم تحويرها إلي الشكل ثلاثي الأبعاد المطلوب وبدون أي خطأ، وإلا يتم احتجازه والتخلص منه بطريقة خاصة “ER-associated degradation pathway-ERAD”، وهناك من الأمراض سببها عطب في هذه الآلية ينتج عنه تصدير بروتينات غير سليمة،[8] ولذلك ما زالت آلية مراقبة الجودة هذه من الأمور المعقدة ومحل بحث العلماء، أيضاً من الوظائف الأخرى الهامة التي تحدث في شبكة الأندوبلازم الخشنة هي عملية تسكير أو “غلكزة” “Glycosylation Process” البروتينات والدهون وهي العملية التي أشرنا إليها سابقاً وسنعرف المزيد عنها في مقالة أخري.
هذا الوصف السريع هو مجرد عناوين للوظائف العديدة لشبكة الأندوبلازم التي تحتل معظم الخلية، وتتباين في أشكالها خلال المراحل المختلفة من نمو وتجدد الخلايا، والحقيقة هي أن المعروف عنها هو أقل بكثير مما نجهله.[9]
أجسام جولجي “Golgi Complex“:
أجسام الجولجي هي المحطة الأخيرة قبل تصدير البروتينات للعمل، سواء داخل الخلية أو خارجها، وبدون هذه المحطة يصبح كل ما سبق هباء لا قيمة له، فجزيئات البروتين التي تم إعدادها في الريبوزومات ثم إعطائها الشكل ثلاثي الأبعاد الخاص بها في شبكة الأندوبلازم الخشنة، لن تعرف وجهتها أو إلي أين تذهب إلا إذا مرت علي أجسام جولجي، التي يمكن إعتبارها مكتب البريد في الخلية فهي التي تقوم بتغليف تلك البروتينات في حويصلات خاصة وتحديد عنوان الجهة التي عليها أن تتوجه إليها، ولذا نجد موضعها في الخلية بين شبكة الأندوبلازم الخشن وغشاء الخلية، وكأن لها مدخلان، مدخل “خلفي” مقابل الأندوبلازم الخشن “cis face” ومدخل “أمامي” مقابل غشاء الخلية”trans face ” الأول لخروج البروتينات التي تحتاجها شبكة الأندوبلازم أو أجسام جولجي، والثاني تخرج البروتينات المصدرة للخارج بعد تغليفها وطبع العنوان عليها، والجدير بالذكر أن أجسام جولجي قد هيئت للتعامل مع أعداد هائلة من البروتينات لذلك فهي تتكون من أنابيب وغرف عديدة “Sacs” مما يسمح بإتمام عديد من التفاعلات الكيمائية المطلوبة في وقت واحد.
من الوظائف الحيوية الأخرى لأجسام جولجي والتي تقوم بها بالتعاون من شبكة الأندوبلازم، هي دورها في تجديد أغشية الخلية الحيوية، بالإضافة إلي إعادة تدوير أغشية الحويصلات “sacs”، كما أنها مسؤولة عن إنتاج الأكياس الهاضمة أو “lysosomes”، وهي عبارة عن أكياس دقيقة في الخلية تحتوي علي إنزيمات هاضمة، وظيفتها هضم المواد الغذائية مثل السكريات المركبة والبروتينات التي تصل للخلية أو أي أجسام ممكن أن تكون الخلية قامت باحتوائها في عملية تعرف بالاحتواء “Phagocytosis”، ومن ثم تحويلها إلي مواد بسيطة يمكن التعامل معها، وإذا شح الغذاء تبدأ هذه الأجسام في هضم مركبات الخلية نفسها، ومن الأمور الغير مفهومة هي أن الإنزيمات الهاضمة في الليزوزوم لا تقوم بهضم الغلاف الرقيق الذي يحيط بها، بينما يمكن أن تهضم مكونات الخلية الأخرى إذا شح الغذاء بدرجه شديدة.[10]
الهيكل الخلوي “The Cell Cytoskeleton“:
الخلية الحية ليست الصورة ثنائية الأبعاد التي نراها في الكتب بل هي مجسم حي متحرك ثلاثي الأبعاد، يختلف في شكله وحركته حسب نوع الخلية، ولذلك جميع الخلايا لديها مركب يقوم بوظيفة الهيكل العظمي الذي يحافظ علي شكل وقوام الخلية ويساعد في حركتها، كان في السابق يُعتقد أن الخلايا التي ليست بها نواة مثل خلايا البكتيريا لا يوجد بها هذا المركب إلا أنه في التسعينات من القرن الماضي ثبت خطأ هذا الاعتقاد، هذا المركب هو “الهيكل الخلوي” وهو عبارة عن شبكة من الشعيرات الدقيقة “Microfilaments” والأنابيب الدقيقة “Microtubules” المنتشرة في سيتوبلازم الخلية وتختلف في نوعية البروتينات وبعض المواصفات الأخرى، علي سبيل المثال الأنابيب الدقيقة يقدر سمكها بحوالي 23 nm بينما الشعيرات الدقيقة تتراوح بين 8-12 nm للنوع المتوسط منها و 7 nm للدقيق جداً.
أما من الناحية الوظيفية فإن الهيكل الخلوي بجانب وظيفة الحفاظ علي شكل وقوام الخلية وتثبيت مكوناتها الأخرى كل في مكانه، فإن وظيفته في الحركة لا تقل أهمية، علي سبيل المثال في الكائنات ذات الخلية الواحدة نجد الأميبا تتحرك وكأنها تسير علي أقدام بحثاً عن الطعام، والسوط “flagellum” الذي تتحرك به البكتيريا مكون من الأنابيب الدقيقة، بدون القدرة علي الحركة لن يكون هناك وجوداً لمثل هذه الكائنات.
والحقيقة الأمر لا يختلف كثيرا حتي في حالة الكائنات الأكثر تعقيداً مثل الإنسان، فانقباض وانبساط العضلات في أجسامنا يحدث نتيجة حركة تلك الشعيرات الدقيقة، كذلك حركة الأهداب في كثير من خلايا الجسم مثل تلك التي تبطن الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، فهي أيضاً تعتمد علي حركة تلك الشعيرات الدقيقة، ويمكن أن ندرك أهمية هذه الأهداب في الجهاز التنفسي إذا عرفنا مثلاً أن استمرار حياتنا الطبيعية يعتمد علي الحركة المستمرة لأهداب خلايا الجهاز التنفسي باتجاه واحد من أسفل لأعلي، وبالتالي تطرد الإفرازات المخاطية للخلايا وما يكون قد علق بها من ذرات غبار أو أجسام غريبة دخلت مع الهواء أثناء عملية التنفس، وهناك أمراض صدرية مزمنة سببها نقص في الأهداب أو عطب في نوعية أو اتجاه حركتها، بل أن وجودنا في الحياة يعتمد علي حركة أهداب الخلايا المبطنة لأنبوب فالوب “Fallopian tube” وهو الأنبوب الذي يصل بين المبيض والرحم، فنجاح البويضة الملقحة في رحلتها عبر هذا الأنبوب كي تصل إلي مستقرها في الرحم يعتمد علي حركة الأهداب في الإتجاه الصحيح، أي في إتجاه الرحم، و لو لم توجد هذه الخاصية في حركة الأهداب لما وجدنا نحن البشر ولا كثير من المخلوقات الأخرى، بل أن حدوث التلاقي بين الحيوانات المنوية والبويضة يعتمد علي نجاح الحيوان المنوي في قطع الرحلة عبر عنق الرحم، ثم الرحم وصولاً إلي البويضة في أنبوب فالوب، ناهيك عن حركة الخلايا التي تحدث طوال الوقت أثناء تكون الجينين داخل الرحم.
إلا أن وظائف الهيكل الخلوي لا تتوقف هنا، فالأنابيب الدقيقة لها دور رئيسي آخر عند إنقسام الخلية، فهي التي تشكل “المغزل” الذي عليه تنتظم الكروموسومات، ثم هي التي تقوم بجذب الكروموسومات المنشطرة الي طرفي الخلية المنقسمة لتعطي خليتين، فبدونها لا تتجدد الخلايا ولأنتهت الحياة في مهدها.
بالإضافة لهذا فإن هذه الشعيرات الدقيقة تشكل داخل الخلية شبكة معقدة من “خطوط النقل” أو “high ways” التي تنتقل عبرها المواد المختلفة من مكان لآخر، مثل البروتينات، أو أكياس النفايات، من مكان لآخر داخل الخلية، الأكثر إبهارًا هو أن خطوط النقل هذه ليست ثابتة، بل هي مثل الجسور التي يتم بنائها ثم إزالتها حسب الحاجة، ثم ليعاد بناءها مرة أخري في اتجاه آخر ولغرض مختلف!.
The protein kinesin, which “walks” along a microtubule, carrying a vesicle full of some chemical toward its destination (after Lodish et al. 2000). Figure by Arthur Chadwick.
Brand, Leonard; Chadwick, Art. Faith, Reason, & Earth History: A Paradigm of Earth and Biological Origins by Intelligent Design (p. 141). Andrews University Press. Kindle Edition.
مخازن الخلايا “Vacuoles“:
تحتوي جميع الخلايا علي فقاعات أو أكياس صغيرة محاطة بأغشية خاصة، تحتوي هذه الأكياس علي ما تحتاجه الخلية من غذاء، وأيضا قد تحتوي علي النفايات الناتجة من العمليات الكيميائية المختلفة والتي يجب عزلها عن باقي الخلية حتي لا تضرها إلي أن يتم التخلص منها.
وتلعب هذه الأجسام دوراً هاماً في النبات، حيث فيها يخزن النبات ما يحتاجه من ماء، ولذلك النباتات تستطيع مقاومة الجفاف لفترات طويلة، أحياناً تصل الي شهور.
مصانع الطاقة في الخلية -الميتوكوندريا:
بدون شك الخلية الحية هي كيان غاية في التعقيد لا تتوقف فيها التفاعلات الكيمائية المختلفة ولا الحركة ولو لفيمتو ثانية، ولكي تعمل هذه الخلية وتستمر في أداء وظائفها فلا غني لها عن الإمداد المستمر بالطاقة.
لكن ما هو بالضبط مصدر الطاقة في الخلية؟ تبين للعلماء أن مصدر الطاقة هو مركب يعرف باسم الأدينوسين ثلاثي الفوسفات “Adenosine triphosphate or ATP” الذي يعتبره العلماء عملة الطاقة الموحدة لأن جميع خلايا الكائنات الحية علي الأرض سواء نبات أو حيوان أو حتي خلايا بكتيرية بدائية لا تستطيع العيش بدون هذه العملة، وذلك للحصول علي الطاقة التي تحتاجها كي تقوم بوظائفها المختلفة.
ولكي نفهم كيف تحصل الخلية علي الطاقة من جزيء ATP علينا أن نتعرف علي تركيب هذا الجزيء، فهو يتكون من حمض نووي يعرف باسم الأدنين “Adenine” متحد مع نوع من السكر يعرف باسم الريبوز “Ribose” الذي بدورة مرتبط بسلسلة مكونة من ثلاث مجموعات من الفوسفات (من هنا كان المسمى ثلاثي الفوسفات)، ترتبط مع بعضها البعض برباط ذو طاقة مزدوجة عالية تعرف باسم “Phosphoanhydride bond”، في هذه الرابطة يكمن السر(أنظر الشكل) .
فإذا اعتبرنا أن مركب الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP ) هو بطارية، تكون في حالة شحن كاملة عندما تكون سلسلة الفوسفات الثلاثية مكتملة، فلكي نحصل علي الطاقة لابد من كسر الروابط بين سلسلة الفوسفات، وكلما انكسرت رابطة كلما حصلنا علي طاقة بينما تفقد البطارية بعض من شحنتها، ففي أول خطوة نحصل علي بعض الطاقة من تحول جزيء ATP إلي ADP أو الأدينوسين ثنائي الفوسفات “Adenosine Diphosphate “، ثم في خطوة تالية يتحول إليAMPأو الأدينوسين أحادي الفوسفات “Adenosine Monophosphate “، بعدها تفرغ البطارية تماماً، لكن لا تتحول الي نفايات، بل يعاد شحنها مرة بعد مرة في دورة لا تنتهي إلا بانتهاء حياة الكائن الحي.
إذاً لابد لأي خلية حية أن تكون قادرة علي الحصول علي عملة الطاقة ATP، بل ولابد أن يكون لديها رصيد من هذه العملة، فالسؤال هو كيف يتم هذا؟
مصدر ال ATP هومن الغذاء الذي يتناوله الكائن وتحديداً الجلوكوز، حيث تقوم الخلية بتحويل أو حرق جزء من الجلوكوز إلي ATP، في ما يعرف بعملية تنفس الخلية “Cell Respiration ” وتكون نتيجة هذه العملية : ثاني أكسيد الكربون وماء، فضلاَ عن الطاقة في صورة مركب ال ATP، وقد تتم هذه العملية في غياب الأكسجين وهو ما يعرف بالتنفس اللاهوائي “Anerobic Respiration “، كما هو الحال مع أنواع البكتيريا اللاهوائية كتلك التي تعيش في أمعائنا وأمعاء كثير من المخلوقات، أو في البرك والمستنقعات التي لا يصلها الأوكسجين، لكن كمية ال ATP الناتجة بالتنفس اللاهوائي محدودة فهي غالباً علي قدر الاحتياجات المحدودة لتلك الخلايا البدائية.
النوع الآخر من التنفس هو التنفس الهوائي “Aerobic Respiration” وهو الذي تقوم به الخلية في وجود الأكسجين وهو الذي يحدث في الكائنات المتعددة الخلايا، في خلايا هذه الكائنات يوجد عضو خاص هو الميتوكوندريا “Mitochondria” الذي فيه تتم عملية تحويل الجلوكوز إلي ATP، من خلال عمليات كيمائية معقدة سنعرف عنها المزيد في الجزء التالي من هذا الفصل.
الجدير بالذكر أن الخلايا النباتية أيضاً تحتوي علي ميتكوندريا، وتقوم بإنتاج الطاقة اللازمة لها من الجلوكوز، لكن بينما نحن وجميع الحيوانات نسعي لنحصل علي الجلوكوز من ما نتناوله من غذاء، فإن النباتات لا تستطيع أن تفعل ذلك ولكن لديها بديل وهو تصنيع ما تحتاجه من الجلوكوز من خلال العملية المعروفة بالتمثيل الضوئي “Photosynthesis”، التي هي في الحقيقة معجزة أخري، ففي هذه العملية يقوم جهاز خاص هو الكلوروبلاست “Chloroplast” موجود في خلايا النبات باستخدام طاقة من ضوء الشمس، ليحول ثاني أكسيد الكربون، في وجود الماء، إلي جلوكوز.
والحقيقة أن عملية التمثيل الضوئي تعتبر أهم تفاعل حيوي علي الأرض، بل هي السر وراء وجودنا ووجود جميع الكائنات علي الأرض، لأن النباتات وأنواع من البكتيريا تقوم بالتمثيل الضوئي للحصول علي غذائها وبالتالي بناء نفسها وإنتاج ثمارها، التي هي الطعام الذي نتناوله نحن، كما أن من نتاج التمثيل الضوئي الأكسجين الذي نتنفسه.
هذا كان مجرد شرح عام للخلية، ومكوناتها الثلاث: البرنامج “Software” الذي لابد وأن واضعه خبير قدير، والعتاد “Hardware” الذي تألف ويعمل استجابة لهذا البرنامج، ومصدر الطاقة الذي صُمم خصيصاً ليضمن عمل هذا الحاسوب المعجز علي مدي حياته ووجوده.
ربما من المناسب هنا أن نعرض وصف الدكتور ميكل دانتون(6) للخلية حيث يقول:
“ربما لا نجد في أي مجال آخر من مجالات علم الأحياء، هذا التحدي الذي نشاهده عندما ننظر إلي شدة التعقيد، والذكاء الموجود في التركيب الدقيق للخلية، …ولإدراك هذا، لابد أن نكبر الخلية ألف مليون مرة، إلي أن يصبح قطرها حوالي عشرون كيلومتر، بما يوازي سفينه فضائية، بحجم لندن أو نيويورك، ما سنشاهده حينئذ هو شيء مذهل غير مسبوق في كفاءته وتعقيده، علي السطح سنشاهد، ملايين الفتحات تقفل وتفتح، لتسمح بدخول وخروج المواد من وإلي الخلية، وإذا دخلنا من أحد هذه الفتحات، سنجد أنفسنا في عالم هو قمة في التكنولوجيا، والتعقيد المنضبط”
“سنري ما لانهاية له من الممرات المتفرعة في كل إتجاه، بعضها يؤدي إلي مركز المعلومات، وهو نواة الخلية، والتي تبدو ككرة معلقة قطرها حوالي كيلومتر، بداخلها سنري مئات الأميال، من شرائط جزيئات الدنا الملفوفة علي نفسها، وسنشاهد حركة إنتقال لكميات ضخمة من المواد، بصورة منظمة من وإلي مراكز تصنيع المواد (البروتينات) في الخلية”
” إنه من المدهش أن يتكون هذا تلقائياً، أو عشوائياً، إذا رأينا أن أصغر مكوناته، من بروتين، أو جين، هو في حد ذاته معقد لأقصي درجة”
” أن ما نعرفه لا يزيد عن جزء ضئيل من الحقيقة، ففي كل مجال من مجالات أبحاث العلوم الحيوية، نجد ما يفوق ذلك في التعقيد وكفاءة التصميم”
وفي موضع آخر من نفس الكتاب يقول:
” إن علم الجزيئات الحيوية قد بين لنا أن أبسط الأجسام الحية، وهي البكتيريا، هي جهاز معقد للغاية، فرغم أن خلية البكتيريا متناهية في الصغر، وتزن أقل من 10-12 جرام، إلا أنها عبارة عن مصنع شديد التعقيد، به الآلاف من الأجزاء المصممة بطريقة مذهلة، يقدر حجم الذرات فيها بما لا يقل عن مائة ألف مليون ذرة، فهي في الواقع أكثر تعقيداً من أي جهاز يمكن أن يصنعه البشر، ولا يضاهيها أي شيء آخر في الكون”(7)
في الفصل التالي أتناول بشرح أكثر تفصيلاً كل من الأغشية الحيوية للخلية ومصادر إعداد الطاقة، وهي من الحقائق العلمية التي اكتُشفت خلال العقود القليلة الأخيرة.
المراجع
[1] Alberts B, Johnson A, Lewis J, et al. Molecular Biology of the Cell. 4th edition. New York: Garland Science; 2002. Cell-Cell Adhesion.Available from: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK26937/
[2] Bruce H. Lipton, The Biology of Belief, Understanding the Power of Consciousness, Matter and Miracles, Hay House. Inc. 2008, pp.56-59.
[3] Gerald H. Pollack, Ivan L. Cameron, and D. N. Wheatley, eds., Water and the Cell (Dordrecht: Springer, 2006), preface, viii.
Gilbert Ling, “A Convergence of Experimental and Theoretical Breakthroughs Affirms the PM Theory of Dynamically Structured Cell Water on the Theory’s 40th Birthday,” in the above-cited Water and the Cell; Pollack, Cells, Gels and the Engines of Life: A New, Unifying Approach to Cell Function.
Both are cited in Denton, Michael. The Wonder of Water: Water’s Profound Fitness for Life on Earth and Mankind (The Privileged Species Series) (p. 217). Discovery Institute Press. Kindle Edition.
[4] ميكروميتر “micrometer”: يساوي 1×10−6 of a meter
[5] الحقيقة أن جسم الإنسان يحمل كمية من البكتيريا تساوي عشرة أضعاف خلاياه، يصل العدد إلي حوالي مائة ترليون بكتيريا، أي عشرة أضعاف عدد الخلايا الجسدية(http://www.wowreally.blog/2006/10/dont-look-now.html).
[6] Your DNA would reach the moon, <http://wow-really.blogspot.com/2006/11/your-dna-would-reach-moon.html> accessed 25 Feb 2017.
[7] Brandon Ho, Anastasia Baryshnikova, Grant W. Brown. Unification of Protein Abundance Datasets Yields a Quantitative Saccharomyces cerevisiae Proteome. Cell Systems, 2018; DOI: 10.1016/j.cels.2017.12.004
[8] Quality control: ER-associated degradation: protein quality control and beyond – PubMed<https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/24637321/> accessed 31 January 2021.
[9] Schwarz, Dianne S, and Michael D Blower. “The endoplasmic reticulum: structure, function and response to cellular signaling.” Cellular and molecular life sciences : CMLS vol. 73,1 (2016): 79-94. doi:10.1007/s00018-015-2052-6
[10] Biologydictionary.net Editors. “Golgi Apparatus.” Biology Dictionary, Biologydictionary.net, 18 Nov. 2016, https://biologydictionary.net/golgi-apparatus/